حوار مع محمد بدابي: توثيق المعاناة بالفن والعدسة في مشروع غزة
في ملتقى أريج السنوي السابع عشر "صحافة بلا قيود"، كان لمشروع "غزة" حضور قوي ومؤثر، مقدمًا قصصًا إنسانية لصحفيين وثقوا المعاناة في أصعب الظروف. تحدثنا مع "محمد بدابي"، المصور والمختص في التصوير المجتمعي، أحد مؤسسي منصة أنترو بلاستاين ومشرف مشروع "غزة"، الذي يعتبر توثيقًا بصريًا نادرًا لمعاناة الصحفيين في غزة.
كيف بدأت فكرة مشروع "غزة"؟
محمد: الفكرة انطلقت من واقع نعيشه يوميًا، حيث تسلب الحروب أرواح البشر، وغالبًا ما يُنسى الصحفيون الذين كانوا شهودًا وصُنّاعًا للسردية الفلسطينية.
في غزة، الصحفيون ليسوا فقط ناقلين للأحداث؛ هم أبطال يحاربون على جبهتين: مهنية وإنسانية. المشروع بدأ عندما قرر بلال الهمس، المصور والممرض، توثيق حياة زملائه الصحفيين الذين عاشوا المآسي ذاتها. أراد أن يظهر الجانب الإنساني من حياتهم، ما فقدوه، وكيف واصلوا العمل رغم الألم.
المشروع يروي 28 قصة مؤثرة لصحفيين وصحفيات من غزة ، استطعنا عرض 18 منها في النسخة 17 من ملتقى أريج السنوي.
من هو بلال الهمس؟
محمد: بلال للعلن ممرض وخارج أوقات عمله مصوّر وصاحب الصور في مشروع
غزة .
ولكن "بلال
الهمس" بالنسبة لي أسطورة, إنه شخصية مميزة وقريبة
إلى قلبي، فهو ممرض يعيش يوميًا وسط مشاهد الموت والدماء في مستشفى غزة، حيث يُسعف
الكبار والصغار الذين تستهدف حياتهم بلا هوادة, رغم قسوة المشهد، لم يتوقف بلال
يومًا عن أداء واجبه الإنساني منذ بداية الحرب وحتى اللحظة.
ومع انتهاء دوامه كممرض، يحمل
كاميرته ليخرج ويوثق الدمار، ويروي قصص الناس وينقل معاناتهم للعالم.
مشاهد الدماء وصوت الأنين وواقع الموت لم تُثنه عن مواصلة الإسعاف
والتوثيق، بل كانت دافعًا له لإيصال أكبر قدر ممكن من القصص.
بلال يمثل نموذجًا يُلهمنا كيف يمكن للإنسان أن يتخطى كل يومٍ صعب،
يصمد في وجه المحن، ويعيش رغم كل الظروف. وبالنسبة لنا، نحن الخارجين عن واقع غزة،
يُشعرنا وجود أمثاله بالعجز عن القيام بدورهم، لكنه يمنحنا في الوقت نفسه أملًا
وقوة نحتاجها بشدة وسط كل هذا العجز.
ما الذي يميز هذا المشروع عن غيره من المشاريع التوثيقية؟
محمد: التميز يكمن في الطريقة التي اختارها بلال لرواية هذه القصص, حيث أن
موت الصحفي ليس مجرد سرد إخباري، بل سرد إنساني يعتمد على البورتريهات وقصص
الأشخاص، ما يجعل المشاهد يتفاعل عاطفيًا.
لا نريد أن نظهرهم كأرقام بل
كبشر لهم حياة وقصص ومشاعر. هذه القصص تحكي فقدهم لأحبائهم وزملائهم وتوازنهم بين
مهنتهم كصحفيين ومسؤولياتهم كأفراد عاديين يسعون لحماية عائلاتهم.
كيف كان تفاعل الجمهور مع معرض "غزة"؟
محمد: ردود الفعل كانت عاطفية جدًا, الجمهور شعر بالقصص على مستوى شخصي. في بروكسل، حيث عرض المشروع للمرة الأولى، لاحظنا التأثر في عيون الناس, وفي ملتقى أريج، لم يكن العرض مجرد صور على الحائط, بل كان دعوة للتفكير في التضحية والإنسانية خلف الكاميرا.
العديد من الحاضرين التقطوا الصور وشاركوها في مساحاتهم، مما يعكس
تقديرهم للقيمة الإنسانية للمشروع.
ما أكثر القصص التي أثرت فيك؟
محمد: واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا كانت عندما اكتشفت صورة زميلي فؤاد
أبو خنش ضمن المعرض, لم أكن أعلم أنه قُتل حتى تلك اللحظة. كان صدمة شخصية
ومهنية، وشعورًا مضاعفًا بالفقد.
وأكيد هناك قصص أخرى مثل
يوميات الصحفيين الذين يخرجون للتصوير بعد قصف منازلهم أو فقدان أحبائهم تظل عالقة
في ذهني, هؤلاء الأشخاص ليسوا فقط شهودًا على الألم بل هم جزء منه.
ما أهمية التوثيق باستخدام الفن؟
محمد: التوثيق الفني يمتد تأثيره أبعد من الأخبار العاجلة. الأخبار غالبًا ما
تكون لحظية، تُنسى بمجرد انتهاء الحدث، لكن الفن يعيش ويخلّد.
الصور والفيديوهات الوثائقية تحمل أبعادًا إنسانية تُظهر الجوانب غير
المرئية من القضايا, من خلال هذه المعارض والأفلام، نبني أرشيفًا بصريًا فلسطينيًا
وعربيا يقاوم محاولات محو الذاكرة.
ما الرسائل التي يود المشروع إيصالها؟
محمد: الرسالة الأساسية هي أن هؤلاء الصحفيين ليسوا مجرد أرقام في التقارير،
بل هم بشر دفعوا حياتهم ثمنًا لإظهار الحقيقة. نحن نريد أن نُبقي قصصهم حية، أن
نخلدهم من خلال العدسة، وأن نجعل العالم يرى معاناتهم ليس فقط كضحايا بل كأبطال.
ما هي رؤيتكم المستقبلية للمشروع؟
محمد: نطمح لتوسيع المشروع ليشمل توثيقًا مشابهًا لقصص صحفيين أناس من جنسيات أخرى تعرضوا للخطر في مناطق النزاع
وأنتهكت حقوقهم لنكون صوتهم. نأمل أيضًا أن نصدر كتابًا يجمع هذه القصص، ليكون
مرجعًا حيًا وذاكرة بصرية لكل من فقد حياته في سبيل الحقيقة.
كلمة أخيرة للشباب المهتمين بمجال التصوير التوثيقي؟
محمد: لا تحتاج إلى معدات باهظة الثمن لتروي قصة؛ الكاميرا، أو حتى الهاتف، تكفي. المهم أن تُدرك قوة الصورة كسلاح في وجه الظلم. ما نوثقه اليوم هو ذاكرة الغد، وإدانة دائمة لانتهاكات حقوق الإنسان. الصورة الحقيقية لا تموت، بل تبقى شاهدة للأجيال القادمة.
يجسد مشروع "غزة"
بجهود المصوّر بلال الهمس والمنسق محمد
بدابي وكامل فريق منصة فلسطين الغير
مرئيّة شهادة بصرية نادرة لمعاناة الصحفيين الذين يعيشون الألم وينقلونه وسط
الدمار. ليسوا فقط ناقلين للأخبار، بل شهود ومشاركون يدفعون الثمن من حياتهم
وأرواح أحبائهم. بفضل عدساتهم، تبقى قصصهم حية، تروي شجاعتهم وتضحياتهم، وتؤكد أن
الحقيقة تستحق كل تضحية.
Comments
Post a Comment